سورة الأعراف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)}.
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة بعضا من قصص الأنبياء مع أقوامهم، وما كان من هؤلاء الأقوام من كفر وضلال، ومن تطاول على رسول اللّه، وتحدّ وقاح لهم، ثم ما أخذ اللّه به هؤلاء الأقوام من نكال وبلاء في الدنيا، وما أعدّ لهم من عذاب شديد في الآخرة- بعد هذا جاءت آيات الكتاب لتقرر هذا الحكم العام، الذي يجريه اللّه على الظالمين، الذين يقفون في وجه الحقّ ويتصدّون لدعاة الخير، وهذا الحكم هو الخذلان للظالمين، والتنكيل بهم، حيث لا يردّ عنهم بأس اللّه ما لهم من جاه وسلطان، وما بين أيديهم من بأس وقوة.
{وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}.
فتلك هى سنة اللّه في الأمم الخالية، قبل بعثة النبي محمد خاتم الأنبياء، عليه وعليهم الصّلاة والسلام.
فما كان يبعث نبى إلى قرية من القرى، أو جماعة من الجماعات إلا كذّبوه، وبغوا عليه، وأنكروا مقامه فيهم، وهمّوا بإخراجه من بينهم، أو قتله، إن هو ظلّ على موقفه منهم.. وهنا تجىء الخاتمة، ويقع بهم ما أنذروا به من قبل إن هم أبوا إلا كفرا، وإلا عنادا وإصرارا على الكفر، وما هى إلا عشية أو ضحاها حتى يصبح القوم أثرا بعد عين، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها} وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ} [5: غافر] وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} تعليل لهذا العقاب الذي أخذهم اللّه به، من بأساء وضراء... والبأساء ما يقع على الأموال من ضرّ، والضراء ما يصيب النفوس من بلاء... والتضرّع: الخضوع، والتذلل والاستسلام.
والسؤال هنا: كيف يتضرّعون، وقد أصبحوا في الهالكين، بهذا الأخذ المستأصل الذي أخذهم اللّه به؟
والجواب: أن هؤلاء الذين هلكوا، هم عبرة ومثل لمن بعدهم... والتضرّع واللّجأ إلى اللّه إنما هو ممن يجىء بعدهم ويخلفهم من ذريتهم.. إذ أن هلاك الهالكين وإن كان عامّا شاملا، إلا أن هناك بقية باقية، من حواشى القوم، المنتشرين هنا وهناك بعيدا عن المجتمع، كما أن هناك أعدادا قليلة من المؤمنين، الذين نجاهم اللّه من هذا البلاء... فهؤلاء وهؤلاء هم البقية الباقية من القوم، وهم الذين ينبت منهم وينمو، هذا الجيل الذي يخلفهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى قد رفع هذا البلاء الذي نزل بالسّلف، وجعل مكانه نعمة وعافية تلبس الخلف، ليكون في نعمة اللّه عليهم، حجة بين يدى الرسول الذي يجيئهم ليدعوهم إلى اللّه، وليلفتهم إلى فضله عليهم كما قال هود لقومه، وهو يدعوهم إلى اللّه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وكما قال صالح لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
فهذه النعم التي يلبسها الخلف، بعد النقم التي حلّت بالسلف، هى حجّة بين يدى الرسول، يذكرّ بها قومه، ليذكروا ما كان للّه عليهم من فضل، وأنه لم يأخذهم بما جنى آباؤهم.
وقوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى قد أمهل هذه البقية الباقية من القوم الهالكين- أمهلهم حتى {عفوا} أي نموا، وكثروا، ومسّتهم العافية.. فالعفو أصله من العافية، التي يتبعها النماء والزيادة، كما جاء في قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.
ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلّم «احفوا الشوارب واعفوا اللّحى» أي قصّروا الشوارب، وأطيلوا اللّحى، أي اتركوها حتى تنمو أصول الشعر، وتطول.
وفى قوله تعالى: {وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} إشارة إلى أنهم أدركوا ورشدوا، وعرفوا ما حلّ بآبائهم من شر وخير.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أن اللّه قد أمهلهم حتى تتابعت أجيم، وكثرت مواليدهم، ونمت أموالهم، وكان لهم بعد الآباء آباء.. وهذا هو السرّ في تقديم الضّراء على السّرّاء هنا.
فالضراء هى ما أصيب به القوم الهالكون من آبائهم الأولين، والسرّاء هى النعم التي أفاضها اللّه على آبائهم الأقربين.. فهم في نظرتهم إلى الوراء يرون على مسيرة الماضي وجهين من وجوه الحياة، تغايرا على موطنهم الذي هم فيه.
يرون آباء لهم كانوا في نعمة من اللّه، وعافية من البلاء، فكفروا بأنعم، وعصوا رسله، فأخذهم اللّه بالبأساء والضرّاء، وآباء خلفوا هؤلاء الآباء فألبسهم اللّه لباس النعمة والأمن ولم يبلهم بعد حتى يعلم ما عندهم من إيمان أو كفر.
وهؤلاء الآباء، هم وأبناؤهم هؤلاء، لم ينتفعوا بهذه المثلات التي حلّت بآبائهم الأولين، إذ حين ابتلاهم اللّه، وبعث فيهم رسله، كفروا بنعم اللّه، ومكروا بها، وأخذوا الطريق الذي أخذه أسلافهم مع رسل اللّه الذين بعثهم اللّه فيهم.
وهذه هى سنّة اللّه فيهم، كما هى في آبائهم.. الهلاك والدمار للقوم الظالمين.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ..}.
وفي النظم القرآنى إعجاز الحذف، الذي دل عليه ما سبق.. والتقدير: حَتَّى إذا عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أرسلنا إليهم رسولا كما أرسلنا إلى آبائهم رسولا، فكذبوه، وسخروا منه، وتوعدوه {فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
وفى قوله تعالى: {وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى أمهلهم حتى كانت لهم فسحة من الوقت ينظرون فيها، ويتأملون فيما بين أيديهم وما خلفهم، ويرون ما حل بآبائهم.
وقد بسطنا القول في شرح هذه الآية، إذ لم نر أحدا من المفسرين أقامها على وجه نرضاه ونطمئن إليه.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
هو تعقيب على ما حل بالظالمين من بلاء ونكال.. ثم هو وعيد المشركين من أهل مكة وما حولها من القرى.
فهؤلاء الذين أخذوا بظلمهم، لو أنهم آمنوا باللّه، وصدقوا رسله، واتقوا محارم اللّه، وأقاموا شريعته، لكانوا في عافية من أمرهم، وفى سعة من رزقهم، ولفتح اللّه عليهم بركات من السماء التي رمتهم بالصواعق، وبركات من الأرض التي زلزلت بهم، ورجفت، وفغرت أفواهها لابتلاعهم.. أفلا يكون في هؤلاء القوم عبرة لمعتبر، وذكرى لمن يتذكر؟ وماذا تنتظر أمّ القرى ومن حولها، وقد استغلظ فيها الشرك، وعاث فيها المشركون؟
والسؤال هنا: هل من مقتضى الإيمان والتقوى أن تفتح على المؤمن التقىّ بركات من السماء والأرض؟ أو بمعنى آخر: هل المؤمنون الأتقياء هم أكثر الناس رزقا وأوفرهم مالا؟ وكيف؟ والمشاهد أن الذين يجتمع إلى أيديهم الغنى والجاه والسلطان، هم الذين لا يؤمنون باللّه، أو الذين يؤمنون به ولكن لا يتقونه ولا يوقرون حرماته؟
فما تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ..؟}.
والجواب: أن المؤمن باللّه، المتقى لحرماته، هو أكثر الناس غنى في قلبه، وقناعة في نفسه، ورضى بقدره... فالقليل في يد المؤمن التقىّ هو كثير مبارك فيه، يسدّ حاجته، ويجلّى عن نفسه هموم الدنيا، ويقيمه على رضى دائم، واطمئنان متصل، وسلام مقيم مع نفسه، ومع الناس، ومع الوجود كله.
وهذا هو السرّ في وصف الرزق المنزل من السماء، والنابت من الأرض- بالبركة.. فهو رزق ممسوس بنفحات البركة التي تجعل القليل كثيرا، ينمو على الإنفاق، كما تنمو النبتة المباركة في الأرض الطيبة.
فالمجتمع المؤمن التقىّ، مجتمع مثالىّ في حياته، وما يرفّ عليها من أرواح السلام، والأمن، والاستقرار، حيث لا ظلم، ولا بغى، ولا عدوان، وحيث الناس إخوان على طريق اللّه، وعلى التناصح والتواصي بالحق والخير.
فأى بركة أعظم من تلك البركة وأي حياة أطيب وأكرم من هذه الحياة، التي يجتمع فيها الإنسان إلى الإنسان، بقلب سليم، ونفس مطمئنة، لا يحمل لأحد شرا، ولا يتربص له أحد بسوء؟
وفى هذا يقول الشاعر العربي:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها *** ولكن أخلاق الرجال تضيق
فحيث كان الإيمان والتّقى، كان الإخاء، والأمن والسلام، والعافية.
قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}.
إنه نذير للمشركين من أهل مكة ومن حولهم.. إنهم قد أشركوا باللّه، وبغوا في الأرض، ولم يكن لهم نظر ينظرون به إلى ما حل بالبغاة الظالمين.
وها هو ذا رسول اللّه يدعوهم إلى اللّه، ويمدّ يده إليهم بالهدى.. وها هم أولاء يكذبونه، ويسخرون منه، ويأتمرون به.. فماذا ينتظرون غير سنّة الأولين؟.
وفى هذا يقول اللّه تعالى عنهم: {وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ} [15: ص].
وعلام يعوّل هؤلاء القوم في تماديهم في الضلال، واطمئنانهم إلى ما هم فيه؟ أهناك من يدفع عنهم عذاب اللّه، ويردّ عنهم بأسه؟ ذلك ضلال إلى ضلال، وعمى بعد عمى، وفتنة مع فتنة.
وكيف يأمنون مكر اللّه، ومعاجلتهم بالعذاب من حيث لم يحتسبوا؟
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}.
وأي خسارة أكثر من أن يرى الإنسان نذر الشر والهلاك مقبلة إليه، ثم يخدع نفسه، ويخيّل إليها أن هذه النذر لن تتجه إليه، ولا تنال منه.. ثم يظل هكذا يرتوى من هذا السراب الخادع حتى تقع به الواقعة، وينزل بساحته البلاء.. فلا يجد له مهربا.
ولو أنه تنبه لهذا الخطر المشير إليه، وأخذ حذره منه، واتخذ له طريقا غير هذا المؤدى به إلى مواقع الهلاك والتلف- لو أنه فعل ذلك فلربما سلم ونجا، فإن لم يسلم ولم ينج، كان قد أعذر لنفسه، وأدّى المطلوب منه نحو ذاته.
وفى توقيت العذاب الواقع بهؤلاء الظالمين من أهل القرى.. بالبيات، وهو الليل، وبالضحى، وهو ضحوة النهار وشبابه- في التوقيت بهذين الوقتين إشارة إلى أن بلاء اللّه ينزل في أي وقت.. في غفلة من الناس وهم نيام، قد استولى عليهم النعاس، ولفّهم الليل بردائه الأسود الكثيف.. أو في ضحوة النهار- عند الضحى- وقد اكتملت أسباب الحياة، واليقظة للناس، وللحياة من حولهم، وعندئذ يشهدون الهلاك عيانا، وهم في أحسن أحوالهم من الاتصال بالحياة، والأخذ بكل قواهم، مما يطلبون ويشتهون منها.
وكلا الضربتين من ضربات النقمة والبلاء، تجىء في وقت يجعل أثرها مضاعفا، ووقعها مزعجا، بالغ الغاية في الإزعاج.
إن النائم الذي استغرق في النعاس، لتزعجه الهمسة تطوف به، حتى ليخيل إليه منها أنها صوت رعد قاصف، أو هدير إعصار ثائر.. فكيف إذا كان ذلك بلاء نازلا من السماء يرمى بحجارة من سجيل، أو عذابا فائرا من الأرض يرمى باللهب، ويقذف بالحمم.
وإن الإنسان الذي لبس ثوب النهار، واستروح أنسام الصباح، واستحضر كل وجوده ليتصل بالحياة، وليقيم وجهه على ما يشتهى منها، ويمسك بكلتا يديه على ما يقدر عليه من لهوها وجدّها- إن مثل هذا الإنسان ليكرب أشدّ الكرب أن يعرض له في تلك الحال ما يقطع عليه حبل اتصاله بالحياة، أو يلفته عن طريقه الذي أخذه معها- فكيف إذا كان ذلك بلاء مدمرا يهلك الحرث والنسل، ويطوى السهل والوعر، ويأتى على كل ما جمع الجامعون، وملك المالكون؟
واستمع مرة أخرى إلى قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}.
وانظر إلى أهل القرى، وهم نائمون.. ثم انظر إليهم وقد جاءتهم الضربة القاضية، فإذا هم بين يديها قيام ينظرون، وكأنهم أصحاب القبور، يوم ينفخ في الصور فيقولون: يا ويلنا.. من بعثنا من مرقدنا؟
وانظر إلى أهل القرى، وهم في ضحوة النهار يلعبون.. ثم انظر إليهم وقد جاءهم أمر ربك على حين غفلة، فقطع عليهم ما هم فيه من لهو ولعب، وقلب بين أيديهم مائدة الحياة وما عليها من أدوات اللعب واللهو! وصدق اللّه العظيم: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [102: هود].


{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)}.
التفسير:
هذه الآيات والآيات التي قبلها هى تعقيب على ما حلّ بالقوم الظالمين، الذين عصوا رسل اللّه، واسترهبوهم بصور مختلفة من الوعيد.
وهذه التعقيبات هى مما يمكن أن يرد على الخواطر، ويتردد على الألسنة ممن يمرّ من عقلاء الناس بمصارع القوم الظالمين، ويجوس خلال الديار التي عمروها، أو يقصّ عليه خبرها، وتكشف له أنباؤها، ففيها العبرة، وفيها العظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}.
.. إنه يكشف عن وجه من وجوه العظة والاعتبار.. فهؤلاء الذين سكنوا مساكن القوم الظالمين الذين هلكوا، وورثوا أرضهم وديارهم وأموالهم.. ألم يهد لهم وينكشف لأبصارهم أو بصائرهم أن اللّه سبحانه وتعالى لو شاء لأخذهم بذنوبهم كما أخذ القوم الظالمين قبلهم بذنوبهم؟ ولساق إليهم نذر الدّمار والهلاك كما ساقها إلى الهالكين من قبلهم؟ فما حجتهم على اللّه حتى يدفع عنهم هذا البلاء الذي هم جديرون بأن يؤخذوا به؟ وما وجه فضلهم على من أهلكوا قبلهم حتى لا يصيروا إلى مثل مصيرهم، وقد فعلوا فعلهم، وأخذوا طريقهم؟
إنه لا لحجة لهم على اللّه، ولا لفضل ظاهر فيهم، أن عافاهم اللّه من هذا البلاء، وأن صرف عنهم عذابه، ولكن لمقام رسول اللّه بينهم، ولفضل اللّه على نبيه الكريم ألا يعذب قومه وهو فيهم، كما وعده ربّه هذا الوعد الكريم:
{وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [33: الأنفال] وهذه خصيّصة لمحمد صلوات اللّه وسلامه عليه، من بين رسل اللّه جميعا، ألّا يرى عذاب السّماء ينزل على قوم هو منهم، أو يصيب بلادا هو فيها.
وفى قوله تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} إشارة إلى أن العذاب الذي سيقع بهؤلاء الظالمين ليس عذابا ظاهرا، ينزل من السماء، أو يخرج من الأرض، ولكنه بلاء خفىّ، يغشى قلوب الظالمين، فيحجب عنها الهدى، فلا تتهدّى إليه، ويصرف عنها الخير، فلا تعرف له وجها.
وفى النظم القرآنى حذف دلّ عليه المقام، والتقدير: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} (و أخذناهم بما أخذنا به القوم الظالمين قبلهم من بلاء ونكال، ولكنا لا نفعل بهم هذا، تكريما للنبي الكريم، {وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} كلام اللّه، ولا ينتفعون به).
وهذا عقاب خفىّ، لا يراه الرسول، حتى لا يحزن ولا يأسى.
وفى قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} إشارة إلى أن المعجزة التي بين يدى هؤلاء القوم، والتي تكشف لهم الطريق إلى تصديق الرسول والإيمان بما جاء به- ليست معجزة منظورة تراها العين، ولكنها معجزة مقروءة تسمعها الأذن، ويعيها القلب.. وتلك المعجزة هى القرآن الكريم، والمستمعون لها هم هؤلاء القوم المشركون، ولكنهم لا يسمعون السمع الذي ينفذ إلى القلب، ويتصل بالعقل.
قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ}.
القرى المشار إليها للنبىّ، هى تلك القرى التي قصّ اللّه سبحانه وتعالى أخبارها من قبل، وما حلّ بأهلها، بعد أن كذّبوا الرّسل.
وهؤلاء مشركوا أمّ القرى ومن حولها، قد سمعوا ما قصّ اللّه من أنباء القرى التي أهلكها اللّه حين كذبوا رسل اللّه، وهاهم أولاء يكذبون النبيّ ويمثّلون معه الموقف نفسه الذي وقفه من سبقهم من أهل القرى التي أهلكها اللّه- هؤلاء المشركون وتلك حالهم، هم بين أمرين:
إما أن ينتظروا البلاء الذي حلّ بمن سبقهم، وإما أن يؤمنوا باللّه، ويستجيبوا للرسول.
أما البلاء، فلن يقع بهم والنبيّ فيهم.
وأما الإيمان، فلن يؤمنوا، لأن اللّه قد طبع على قلوبهم.
وإذن فليس لهم إلا الخزي في الدنيا، وعذاب السعير في الآخرة.
والمراد بهؤلاء القوم هو رءوس الكفر، من مشركى مكة، الذين علم اللّه أنهم لن يؤمنوا، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [57- 58: الكهف].
فقوله تعالى: {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} مراد به هؤلاء العتاة من رءوس المشركين من قريش.. إنهم لا يؤمنون أبدا بهذا الرسول الذي كذّبوا به، وبما أنزل إليه من آيات ربّه، فما ينزل من آيات اللّه بعد هذا، وما يساق إليهم فيها من عبر وعظات في قصص الأولين- كل هذا لن يزيدهم إلا نفورا.. {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ} ذلك الطبع الذي لا ينفذ منه إلى القلب لمعة من نور الحق أبدا.
وقوله تعالى: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} هو وصف كاشف لهؤلاء الرءوس من أهل الشرك في قريش. وأمّا العهد الذي نقضوه مع اللّه فهو قولهم الذي حكاه القرآن عنهم: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} [156- 157: الأنعام] فهم قد عاهدوا أنفسهم أن لو جاءهم كتاب كما جاء أهل الكتاب كتاب، لآمنوا باللّه، وكانوا أهدى سبيلا من أهل الكتب السابقة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ}.
.: {إن} هنا هى المخففة من إنّ الثقيلة المؤكدة، واللام في قوله تعالى: {لفاسقين} هى اللام المؤكدة، الداخلة على الخبر، والمعنى، وإنّا وجدنا أكثرهم لفاسقين، ينقضون العهد الذي وثقوه مع أنفسهم، وذلك خيانة منهم لوجودهم.


{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}.
التفسير:
فى الآيات التي مضت، ذكر فيها قصص الأنبياء: نوح، وهود، وصالح، وشعيب عليهم السلام، وقد تخللت هذه القصص لمحات وإشارات إلى مشركى مكة، تلفتهم إلى مصارع القوم الظالمين، الذين كذبوا رسل اللّه وأعنتوهم، وأن هؤلاء المشركين من قريش إذا أصروا على ما هم عليه من عناد وشرك، بعد هذا الهدى الذي جاءهم من عند اللّه، على يد رسول اللّه- فلن يكونوا بمأمن من هذا المصير المشئوم الذي صار إليه الظالمون من قبلهم.
ولم تذكر الآيات السابقة قصة موسى، مع فرعون، ثم قصته مع قومه بنى إسرائيل.
وهذا ما عرضت له تلك الآيات التي نحن بين يديها الآن.
{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
أي ثم بعث اللّه سبحانه وتعالى، من بعد هؤلاء الرسل الذين ذكرتهم الآيات السابقة- بعث موسى بآيات معجزات إلى فرعون وملائه، أي الوجوه البارزة من قومه، من وزرائه وقواده، وأصحاب الرأى والكلمة عنده، فلم ينتفع هو ولا قومه بهذه الآيات، ولم يروا فيها طريقا يصلهم إلى اللّه ويدعوهم إليه، بل ظلوا على ما هم عليه من ظلم ومن بغى، بل لقد كانت تلك الآيات باعثة لهم على المبالغة في الظلم والبغي، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَظَلَمُوا بِها} أي اتخذوها أداة من أدوات الظلم، وذريعة من ذرائعه، كما سنرى ذلك في موقف فرعون بعد أن التقى به موسى، وعرض عليه ما بين يديه من معجزات.
وفى قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
في هذا ما يسأل عنه وهو: كيف يجىء الأمر بالنظر إلى ما صارت إليه حال القوم المفسدين، ولم تأت عاقبتهم بعد؟ وماذا ينظر الآن من عاقبة هؤلاء المفسدين؟
والجواب: أن المبادرة إلى هذه الدعوة بالنظر إلى مصير المفسدين، هى لإثارة التطلعات إلى تلك الخاتمة المثيرة التي ستختم بها هذه القصة، وما ينتهى إليه الصراع بين الحق والباطل، ففى هذه المبادرة إعداد للنفس، وإثارة لأشواقها، وإخلاء لها من الشواغل، حتى تلتقى بتلك الخاتمة وهى على حال تامة من الوعى واليقظة، فلا تفوتها من مواقع العبرة والعظة فائتة.
ومن جهة أخرى، فإن في المبادرة بهذا الحكم، على هؤلاء القوم بأنهم مفسدون- إشعارا بأن القضية هنا قضية صراع بين حق وباطل، وبين دعاة إصلاح وأهل فساد، وفى هذا ما يقيم شعور المستمع لهذه القضية على هذا الموقف منها، وهو موقف بين المحقين والمبطلين.
{وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ}.
فهذا هو مبدأ القصة.. يلتقى موسى بفرعون لقاء مباشرا... ثم يبدؤه بهذا الخبر:
{يا فِرْعَوْنُ... إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
ويفعل هذا الخبر فعله في نفس فرعون، ومن حوله.. ثم لا يكاد فرعون يفيق من صدمة هذا الخبر غير المتوقع، حتى يسد عليه موسى منافذ القول بالتكذيب أو الاتهام، فيتبع الخبر بخبر آخر، يؤكده ويوثقه: {حقيق على ألا أقول على اللّه إلا الحق} فإن من كان رسولا لربّ العالمين، لا ينبغى له أن يقول غير الحق، إذ الرسول وجه كاشف عن وجه من أرسله.. واللّه سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص، فكذلك ينبغى أن يكون الرسول الذي يرسله، على حظ موفور من الكمال البشرى، فلا يكذب، ولا يخون.. فهو أحق الناس وأجدرهم ألا يقول غير الحق.
وتثور في نفس فرعون تساؤلات، لا يكاد يمسك بواحدة منها حتى يلقاه موسى بالجواب لما تفرق أو اجتمع في خاطره من تلك التساؤلات: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ}.
فالأسئلة التي تواردت على خاطر فرعون كثيرة، كان منها وأهمها: ماذا يريد موسى بهذه الدعوى التي يدعيها؟ وما شأن فرعون به وبرسالته؟ ليكن رسولا من عند اللّه أو من عند غير اللّه.. فما لفرعون وهذا الذي يقتحم عليه مجلسه، ويلقى إليه بمثل هذه المقولات؟
وجواب موسى على هذه الأسئلة: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ} وكان الجواب المنتظر هو: أرسل معى بنى إسرائيل.
فهذه هى رسالة ربه، المطلوب منه أن يبلغها فرعون.. فإن أبى فرعون أن أن يصدقه، عرض عليه من آيات ربه ما يقيم الدليل على صدقه، ويؤكده.
ولكن جبروت فرعون وتسلطه يحدّثان بأنه لن يقبل من موسى قولا، ولن يسلّم له بشىء مما يقول، بل سيجبهه بالزجر، ويتوعده بالعقاب، ويرميه بالكذب.. ولهذا كان من الحكمة- لكى يطفىء بعضا من غضب فرعون وثورته عليه- أن يلقاه أولا بالدليل الذي يسند دعواه، ويدل على صدقه، وأن يدير تفكيره- ولو مؤقتا- إلى تلك للمعجزات التي يحملها موسى بين يديه من ربّه، وأن يثير فيه غريزة حب التطلع إلى هذا المجهول الذي يخفيه موسى عنه.
ولهذا كان ردّ فرعون:
{إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
ولم يعرض فرعون لما طلبه موسى في شأن بنى إسرائيل، وإرسالهم معه، بعد إطلاقهم من يده.. وهو المطلب الأول، بل هو كل ما طلب من فرعون في هذا الموقف. وإنّما كان همّه كله هو الاطلاع على ما عند موسى من آيات!
ولم يمهل موسى فرعون، بل طلع عليه فجأة بما ملأ عليه وجوده كله، هولا، وفزعا ودهشا!! لقد كان فرعون ينتظر من موسى شيئا من الحوار والجدل، والأخذ والردّ، فيما سيعرضه عليه من معجزات.. كأن يستحضرها أولا، ويتخير لها الزمان والمكان ثانيا.. فما كان مع موسى شيء يتوقع أن تخرج منه معجزة، وإلا فأين أدوات هذه المعجزة؟ وأين أجهزتها ومعداتها والأيدى التي تعمل فيها؟.. ولكن هكذا كان تدبير الحكيم العليم وتقديره! {فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ}.
هكذا تقع المعجزة، وتكون المفاجأة!! العصا التي يمسكها موسى بيده.. يلقى بها إلى الأرض فإذا هى ثعبان مبين.
يفغر فاه حتى ليكاد يبتلع فرعون ومن حوله! ويد موسى التي أدخلها في جيبه (أي في فتحة قميصه على صدره) يخرجها، فإذا هي بيضاء من غير سوء، لم يتغير شيء من خلقها، إلا أنها ترسل ضوءا مشرقا كضوء الكوكب الدرىّ في فحمة الليل.
لقد ألقى موسى بكل ما معه دفعة واحدة، حتى يضرب فرعون الضربة القاضية، التي لا تدع له فرصة يلتقط فيها أنفاسه.. وواحدة من هاتين الضربتين تكفى لكى يستسلم لها كل جبار عنيد.. ولكن فرعون كان أكثر من جبار عنيد..!
ولا يذكر القرآن هنا ما وقع في نفس فرعون من فزع، وذعر، بل يدع ذلك لتصورات الناس، يأخذ كل إنسان ما يقدر عليه الخيال من الصور المرعبة المفزعة، لهذا الهول الذي وقع.
وإذ يفيق القوم من هذا الهول العظيم، بعد أن يدعو موسى الثعبان إليه فيكون عصا في يده، ويردّ يده إلى مكانها الذي كانت عليه- إذ ذاك يأخذون في التفكير لمواجهة هذا التحدّى الذي جاءهم به موسى، ويجدّون في التماس السبل للوقوف في وجهه، قبل أن يتصل خبره بالناس، فتكون الفتنة، ويكون البلاء... كما وقع في ظنونهم وأوهامهم.
{قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ}.
أي ساحر يقوم سحره على علم ومعرفة، وهو من أجل هذا مصدر خطر عظيم على فرعون وعلى مكانته في قومه.
{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}.
فمثل هذا الإنسان الذي يملك تلك القوة، وهذه البراعة، لا يعجز عن أن يفعل ما هو أكثر مما فعل، وليس ببعيد أن يحيل الناس إلى أحجار ودمى، كما أحال العصا ثعبانا مبينا.. وليس ببعيد أن يطوّح بفرعون، ويلقى به في مكان خارج ملكه، ويستولى هو على هذا الملك! ويدور بين القوم حديث طويل متصل، تتوارد فيه الآراء، وتكثر وجوه العروض والحلول.. ثم ينتهى فرعون إلى موقف يسأل فيه الملأ:
ماذا عندهم من قول في موسى، وفى هذا الذي شهدوه منه..؟.
{فَما ذا تَأْمُرُونَ}؟
إن فرعون يريد منهم موقفا حاسما، ورأيا قاطعا، وأمرا نافذا في هذا الموقف، الذي لا يحتمل غير المواجهة الحازمة الحاسمة.
وفى قول فرعون لقومه: {فَما ذا تَأْمُرُونَ} خروج على المألوف بينه وبينهم، فما اعتادوا أن يسمعوا منه غير كلمة واحدة، هى الأمر منه، والطاعة والتنفيذ منهم.
أمّا هنا في هذا الموقف، فهو متخاذل متهالك، قد هزّته الصدمة، وأذلّت من كبريائه، فذهل عن نفسه، ونسى أنه فرعون الذي يأمر... ولا يؤمر، ويقول... ولا يقال له.
إنه هنا في معرض الهلاك، وفى مواجهة البلاء الذي يتهدّده، ويتهدّد ملكه.
وإنه هنا ليواجه الضعف الإنسانىّ الذي يتعرّى فيه من كل مظاهر العظمة الكاذبة، والاستعلاء المصطنع، حين يصطدم بواقع الحياة، ويواجه أهوالها وشدائدها... إنه هنا، هو هذا الإنسان الذليل الضعيف المستكين، الذي يقبل الصدقة من أي يد تمتدّ إليه..!
ويجىء جواب القوم أمرا حاسما.. لقد نسواهم كذلك أنهم في مجلس فرعون، وبين يدى جبروته وكبريائه، إنهم لا يرون منه الآن إلّا إنسانا مثلهم، قد أدركه الفزع، واستولى عليه الذعر، وأنهم وهو على سواء في هذا الموقف الأليم.. وهل حين تغرق السفين، ويلقى براكبيها في لجة البحر، يكون هناك ملك وسوقة؟ وسيد ومسود؟ إنهم جميعا في يد الهلاك سواء! {قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ}.
{أرجه} أي أنظره وأخّر الأمر فيه إلى أن نجمع ما في المدن من السحرة، أصحاب العلم، والتخصص في هذا الباب، وبهذا نلقى سحره بسحر مثله، يستند إلى علم ومعرفة.
والحاشرون: هم الذين يتولّون جمع السحرة وحشدهم، وحشرهم إلى ساحة فرعون.. والتعبير بالحشر هنا، يشير إلى أن الأمر عظيم، وأنه لا بد له من حشر الناس إليه، وبعثهم سراعا من كل أفق، ليلقوا موسى، ويقفوا في وجه هذا الخطر الذي دهمهم به.
وحشر السحرة على عجل، وأقبلوا من كل أفق، وغصّت بهم ساحة فرعون.. وما كانوا قد رأوا رأى العين ما كان من فعل موسى بعصاه ويده، مع فرعون، وإن كانوا قد سمعوا به، وتصوروه على ما روى لهم.
ومن هنا وقع في أنفسهم أنه ساحر مثلهم، وأنّه إذا كان على شيء من القوة بالنسبة لهم، فإن في جمعهم هذا ما يتغلب على كل قوة.
ومن هنا أيضا وقع في أنفسهم أنهم أصحاب الموقف المنتظر بينهم وبين موسى، فكانت لهم بذلك دالّة على فرعون، وقد أطمعهم فيه، ما وجدوه عليه من ذلّة وانكسار، فجاءوا إليه يسألونه الأجر مقدّما، ويسألونه الجزاء الذي لهم عنده، بعد أن يكون لهم الغلب!! {وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ}!.
ولا يملك فرعون في هذا الموقف إلا أن يستجيب لهم، ويترضّى مشاعرهم، حتى يبذلوا كل ما يملكون من حول وحيلة.. إنهم الآن لا يعملون إلا بأجر، وقد كانوا من قبل هذا الموقف عبيدا مسخّرين! {قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.
فليس الأجر وحده، ولا المال وحده، هو الذي سيبذله لهم، إن هم انتصروا على موسى، وأبطلوا كيده، وأفسدوا تدبيره، ولكن لهم إلى هذا المال الوفير الذي سيغدقه عليهم- أن يقرّبهم إليه، ويدنيهم منه، ويجعلهم أعوانه، وأصحاب الكلمة والرأى عنده.
ولا يذكر القرآن هنا اجتماع السحرة بموسى، والاتفاق معه على موقع المعركة وزمانها.. فذلك متروك لتقدير من يتلو هذه القصة، وتصوره لملء هذا الفراغ الذي لا يغيب عن فطنته، فإن لم يسعف الإنسان ذكاؤه هنا، وجد القرآن الكريم في معرض آخر من معارض هذه القصة، يعرض الصورة المثلى التي تملأ هذا الفراغ وتغطيه!.
ومن أجل هذا جاء اللقاء المواجه بين السحرة وموسى هكذا.
{قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}.
إن المعركة قد بدأت، وإنها الآن في أول جولة من جولاتها.
ولقد خيّر السحرة موسى، بين أن يبدأ هو الجولة، أو هم الذين يبدءونها.؟
وأجابهم موسى أن يكونوا هم البادئين.. وهذا أدب من أدب الحرب.
أعطوه الفرصة، فأعطاهم هو إياها.. ولقد جاءوا بأدوات كأدوات موسى.
عصىّ وحبال أشبه بالعصىّ، كما جاء هو بعصاه.. فتلك هى أصول منازلة الخصم لخصمه.. أن يحاربه بمثل سلاحه.
وقد أعطاهم موسى الفرصة ليظهروا كل ما عندهم، وكان ذلك عن حكمة وتدبير وتقدير.. فلو بدأ موسى- وقد جعلوا هم الأمر إليه في اختيار من يأخذ المبادرة- لكان غير عادل معهم، إذ بدءوه بالإحسان.. ولهذا فقد ردّ إليهم إحسانهم بإحسان، وأعطاهم حقّ المبادرة التي كان له أن يأخذها لنفسه.
ثم- من جهة أخرى- إن موسى كان واثقا من تأييد اللّه له، ومن نصره في هذا الموقف.. ولو بدأ هو الجولة، وضرب السحرة ضربته، وأوقع بهم الهزيمة من قبل أن يعطوا ما عندهم، لكان في نصره هذا الذي أحرزه مقال لقائل أن يقول: إنهم لو أظهروا السّحر الذي في أيديهم أولا، لشلّوا حركة موسى، وضربوه الضربة القاضية.. ولكنه عاجلهم فكانت الضربة له، ولم تكن لهم!! هذا قول يقال، في مثل تلك الحال، وفيه يجد أصحاب الضلال وأهل العناد متعلقا يتعلقون به، ويتخذون منه مثارا للشغب على موسى حين ينتصر بالضربة القاضية.
ويلقى السحرة حبالهم وعصيتهم، ويأنون منها بألوان من السّحر، وضروب من الشعوذة، فيها مهارة وبراعة، أخذت بألباب الناس، وسحرت عقولهم، وألقت الرعب في قلوبهم.
ويأخذ موسى شيء من هذا الذي يأخذ الناس، من خوف واضطراب، في مواجهة الغرائب من الأحداث، ويكاد يفلت زمام الموقف من يده.
وهنا تتدخل السماء، ويجىء وعد اللّه.. وتبدأ الجولة الثانية، وفيها تتبدل الأحوال وتنقلب موازين الأمور.!

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10